في ظل التحولات العاصفة التي تمر بها اليمن منذ سنوات، تبرز محافظة حضرموت بوصفها واحدة من أكثر المناطق حساسية وتأثيرًا في المشهد اليمني، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية وثرواتها الطبيعية وموقعها الجغرافي المميز. ومع تصاعد الأحداث مؤخرًا، يبدو أن حضرموت باتت على مفترق طرق سياسي، تتنازعها مشاريع متعددة، وتغلي ساحتها الداخلية بتجاذبات قوى محلية وإقليمية تتسابق على النفوذ، فيما تقف الحكومة الشرعية موقف المتفرج العاجز عن تقديم رؤية حقيقية للحل.
شهدت مدينة المكلا في الأيام الأخيرة عرضًا عسكريًا ضخمًا لقوات النخبة، شارك فيه الآلاف، ورافقه حشد جماهيري نظمه المجلس الانتقالي في حضرموت، في استعراض واضح للقوة والسيطرة الرمزية على الساحة الحضرمية. في المقابل، نظم حلف قبائل حضرموت فعالية جماهيرية موازية للاحتفاء بذكرى تحرير الساحل من القاعدة، بمشاركة قيادات عسكرية رفيعة، ما يعكس وجود حالة من التنافس الشديد بين طرفين متباينين في الرؤية والهدف.
أحمد بن بريك، أحد أبرز قيادات المجلس الانتقالي، أطلق مؤخرًا مبادرة مثيرة للجدل، حيث أعلن عن التخلي عن مشروع "الجنوب العربي" والانتقال إلى ما أسماه "دولة حضرموت العربية المتحدة"، في خطوة تعكس حجم الضغط الشعبي والسياسي الذي تواجهه هذه القوى في ساحل حضرموت، ومحاولة جديدة لامتصاص الغضب الشعبي وتحقيق اختراق في الحاضنة القبلية والسياسية التي ظلت حتى وقت قريب موالية لمشروع الحكم الذاتي تحت قيادة الشيخ عمرو بن حبريش.
الدعوة التي وجهها المجلس الانتقالي لعقد العرض العسكري في المكلا ترافقت مع دعوة مفتوحة لبن حبريش لحضور المناسبة، غير أن الأخير تجاهلها بالكامل، في دلالة واضحة على حجم التباعد والخصومة بين الطرفين. ويفهم من هذا التجاهل أن حلف قبائل حضرموت لا يزال يرفض دمج مشروعه في أي إطار جنوبي، ويرى في نفسه الممثل الشرعي الوحيد لتطلعات أبناء حضرموت، الأمر الذي يعمق الانقسام.
تساؤلات المرحلة: التصعيد أم الاحتواء؟
التساؤلات تزداد حول آفاق هذا التصعيد:
هل نحن أمام مواجهات قادمة بين القوى المتصارعة؟
هل ستتمكن الحكومة المركزية من احتواء التوتر، أم أنها ستواصل سياسة الغياب؟
المؤشرات الحالية لا تبشر بهدوء قريب، خصوصًا بعد الأنباء المتواترة عن استدعاء محافظ حضرموت مبخوت بن ماضي إلى الرياض، وحديث عن تغييره، في خطوة قد تعني بداية تدخل سعودي مباشر لإعادة ترتيب البيت الحضرمي، وسط تخوفات من فراغ سياسي قد تستغله قوى النفوذ المتصارعة.
التطور الأكثر خطورة يتمثل في إعلان تأسيس قوات "حماية حضرموت" التابعة لحلف القبائل، وهو ما يعني فعليًا مضي الحلف في إنشاء ذراع عسكري موازٍ يكرس واقعًا جديدًا على الأرض. في المقابل، تزداد وتيرة تحركات المجلس الانتقالي في ساحل حضرموت، وتُرسل إشارات إلى استعدادهم للتمدد الميداني بذريعة "التمثيل الجنوبي"، مما قد يفجر صراعًا مسلحًا ذا طابع سياسي مناطقي في واحدة من أكثر المحافظات استقرارًا نسبيًا.
تعدد المشاريع السياسية جنوبًا: من المشروع الجنوبي إلى التشظي الذاتي
ما تشهده حضرموت اليوم ليس مجرد حالة احتجاج موضعي أو صراع نفوذ محدود، بل هو نتاج تراكم طويل من الإحباطات والمخاوف من مشاريع غير جامعة. فمنذ اندلاع الحرب، تصاعدت الدعوات إلى استعادة الدولة الجنوبية، وبرز المجلس الانتقالي باعتباره الممثل الأبرز لهذا التوجه. غير أن التطورات أظهرت أن المشروع الجنوبي نفسه يعاني من تشظيات داخلية، وقد فشل في خلق مظلة موحدة لكافة أبناء الجنوب.
هل تحاول بعض الأطراف السياسية اليمنية ضرب المجلس الانتقالي من بوابة حضرموت بعد هزيمته لها في عدن؟
في سياق تصاعد التوترات في حضرموت، يبرز تساؤل سياسي لافت:
هل ما يجري في ساحل حضرموت هو امتداد لمعركة سياسية أوسع، تسعى من خلالها بعض القوى اليمنية إلى ضرب المجلس الانتقالي في خاصرته الشرقية، بعد أن فشلت في زحزحته عن العاصمة المؤقتة عدن؟
العديد من المؤشرات توحي بأن معركة حضرموت ليست معزولة عن حسابات مراكز القوى التي تحاول إعادة تشكيل النفوذ جنوبًا. فالقوى المتضررة من هيمنة الانتقالي على القرار في عدن، خاصة تلك التي فقدت موطئ قدمها في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ربما وجدت في حضرموت بيئة أكثر قابلية للاختراق والمناورة، بالنظر إلى التركيبة السياسية والاجتماعية المختلفة للمحافظة، وغياب الاندماج الكامل مع المشروع الجنوبي الذي يتبناه الانتقالي.
تحركات حلف قبائل حضرموت، وظهور مشاريع سياسية موازية، لا يمكن فصلها عن دعم سياسي غير مباشر - وربما مباشر - من بعض مكونات الشرعية، التي ترى في تقليم أظافر الانتقالي في حضرموت فرصة لإضعاف نفوذه، أو على الأقل محاصرته في مربع عدن. وهنا، تتحول حضرموت إلى ساحة لتصفية حسابات بين شركاء الحرب والسياسة، لا تقل ضراوة عن معارك الميدان.
لكن يبقى السؤال:
هل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح؟
الإجابة مرهونة بمدى قدرة الانتقالي على كسب حواضن محلية جديدة في حضرموت، وبمدى وعي القوى الحضرمية بخطورة أن تُستخدم أرضها لتصفية حسابات الغير. فإذا تحولت حضرموت إلى ساحة لتجاذبات الأطراف اليمنية، فإن الخاسر الأول والأكبر سيكون أبناء المحافظة أنفسهم، الذين لطالما نادوا بأن تكون حضرموت لأهلها، ولها قرارها المستقل.
حضرموت، بتاريخها وتركيبتها القبلية والفكرية، لم تكن يومًا مندمجة كليًا في المشروع الجنوبي. بل إن بعض قواها المجتمعية ظلت ترفع شعارات الحكم الذاتي، مطالبة بإدارة ثرواتها وشؤونها بمعزل عن عدن أو صنعاء. ومؤخرًا، تحولت هذه المطالب إلى مشاريع ميدانية ومكونات سياسية، كما هو الحال مع مؤتمر حضرموت الجامع، ومجلس حضرموت الوطني، وحلف قبائل حضرموت، ما يعني أن المحافظة باتت تمضي فعليًا في اتجاه إقامة كيان مستقل أو شبه مستقل.
في ذات السياق، يبدو أن شبوة والمهرة هي الأخرى تسير نحو التمايز السياسي، حيث بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بإدارة ذاتية لكل محافظة على حدة. هذا التوجه يعكس حالة من التفكك في المشروع الجنوبي، ويدفع إلى إعادة صياغة خريطة التحالفات داخل الجنوب، ويطرح تساؤلات جادة:
هل نحن أمام لحظة ولادة لكيانات متعددة تستند إلى منطق الهوية المناطقية والموارد الاقتصادية؟
أم أن الأمر مجرد حالة عابرة ضمن مناخ سياسي متوتر؟
اللافت أن القوى الإقليمية الداعمة لمشاريع الجنوب لم تُبد حتى اللحظة موقفًا حاسمًا من تحركات حضرموت، وربما تسعى لتوظيف هذا التنوع السياسي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. فالسعودية تميل إلى دعم كيان حضرمي مستقل يرتبط بمصالحها الحدودية والاقتصادية، بينما تتبنى الإمارات مشروع الجنوب الموحد الذي يتضمن حضرموت كمكون رئيسي، وهو ما يخلق تعارضًا في الأجندات الخارجية.
هل حضرموت مقبلة على تصعيد جديد أم تهدئة مرتقبة؟
المعطيات على الأرض لا تبشّر كثيرًا بتهدئة قريبة، خصوصًا في ظل اتساع رقعة الخطاب التعبوي، والتمترس خلف مشاريع سياسية متناقضة. العرض العسكري الذي نظمه المجلس الانتقالي في المكلا، وما قابله من فعالية لحلف قبائل حضرموت في ذات التوقيت، كان بمثابة رسالة مزدوجة بأن الأطراف لا تزال متمسكة بمواقفها، بل وتدفع باتجاه حشد الشارع والشارع المضاد.
لكن لا يمكن تجاهل وجود ضغط سعودي متصاعد يسعى لفرملة أي اندفاع نحو الصدام، وهو ما يُفسَّر ضمن مساعي الرياض إلى إعادة ترتيب أوراق الجنوب دون انفجار شامل.
السؤال إذًا، ليس فقط عن النية في التصعيد أو التهدئة، بل عن القدرة على إدارة التباينات بذكاء سياسي، وهل تملك الأطراف أدوات السيطرة على حلفائها ومؤيديها، أم أن الميدان بات أكبر من قدرة الجميع على ضبطه؟
هل التخلي عن "الجنوب العربي" لصالح "دولة حضرموت" يعكس توهانًا سياسيًا؟
إعلان أحمد بن بريك التخلي عن التسمية التاريخية "الجنوب العربي" وتبني مسمى جديد هو "دولة حضرموت العربية المتحدة" فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات جوهرية:
هل نحن أمام حالة توهان سياسي بعد سنوات من الترويج لمشروع موحد، أم أن الأمر لا يعدو كونه تموضعًا تكتيكيًا فرضته ضرورات الميدان؟
يرى البعض أن هذا التحول في التسمية يكشف حالة من الارتباك داخل المجلس الانتقالي، وعدم امتلاك رؤية استراتيجية متماسكة للتعامل مع المكونات المحلية. فيما يراه آخرون كخطوة براغماتية لامتصاص الغضب الحضرمي، في محاولة لتفتيت معسكر الخصوم لا أكثر.
وفي كلتا الحالتين، لا تزال حضرموت متمسكة برفضها أن تُختزل ضمن أي مشروع سياسي دون أن تكون طرفًا رئيسيًا في صياغته.
هل تغيير المحافظ كفيل بتهدئة الأوضاع؟
محافظ حضرموت الحالي مبخوت بن ماضي، الذي استُدعي مؤخرًا إلى الرياض، يواجه انتقادات من مختلف الأطراف، سواء من قبل حلف القبائل أو من قبل المجلس الانتقالي، وسط حديث متزايد عن احتمالية تغييره.
لكن التجربة اليمنية أثبتت أن تغيير الأشخاص لا يعني بالضرورة تهدئة الأوضاع، إذا لم يكن مصحوبًا بتغيير في طريقة إدارة الملف الحضرمي. أي محافظ جديد سيواجه ذات التحديات، ما لم يتم التوصل إلى توافق حقيقي بين المكونات المحلية، وضمان تمثيل عادل وشراكة واضحة في القرار والثروة.
تهدئة حضرموت لا تحتاج إلى تغييرات شكلية، بل إلى معالجات جوهرية، تبدأ من احترام تطلعات أبنائها وتنتهي ببناء شراكة متوازنة تحفظ للمحافظة موقعها ودورها، وتمنع عنها الانزلاق في أتون الصراع الإقليمي والمحلي.