إعداد /د. الخضر عبدالله:
انفراجة صنعاء و عدن
يواصل الرئيس علي ناصر محمد حديثه عن زيارته إلى صنعاء وقال مسترسلا:" في التاسع من حزيران/ يونيو 1980م. الطائرة تقلع من مطار عدن الدولي، وبعد أقل من 45 دقيقة كانت تهبط في مطار صنعاء. تلك هي المدة الفاصلة بين العاصمتين صنعاء وعدن.
على مدى التاريخ، كان اليمنيّون يخترقون هذه الحدود (وغيرها من الفواصل والحواجز) براً، فيسافرون شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. ولم تحاول سلطات المستعمر المحتل أو السلاطين وحكام المحميات وبيت حميد الدين أن يمنعوا تلك الغريزة الوطنية الطبيعية من الحركة والتفاعل. وكان هذا حال النظامين بعد ذلك. كان المواطن في ظلّ الاحتلال التركي والبريطاني للمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج يتحرك دون وثيقة سفر. أما اليوم بعد حصول هذه الشعوب على استقلالها، فأصبح المرء يحتاج إلى وثائق وتأشيرات للتحرك من بلد إلى آخر، ولا يمكنه التنقل بحرية في بعضها إلا إذا كان يحمل جوازاً أميركياً أو أوروبياً أو إسرائيلياً أحياناً.
كان كل شيء في مطار صنعاء يوحي بحرارة وودية، وأيضاً برسمية الاستقبال. البساط الأحمر، والموسيقى وحرس الشرف، والمستقبلون من كبار المسؤولين في السلطات الثلاث، والوزراء وأعضاء البرلمان وقادة الأسلحة والمشايخ، وعلى رأسهم الرئيس علي عبد الله صالح.
هبوط الطائرة
ويقول الرئيس ناصر في حديثه:" فور فتح باب الطائرة هبطنا السلّم، عانقتُ الرئيس وصافحتُ كبار المستقبلين. وبينما كنتُ أستعرض حرس الشرف، كانت كل هذه الترتيبات المعدة بأناقة وعناية واهتمام بالغ لا تثير اهتمامي، ولا أرى لها ضرورة، لكن "البروتوكول" كان يحتّم ذلك، فقد كنا بعد كل شيء لا نزال دولتين، وعلمين، وسلامين وطنيين، ورئيسين. وهذه الأشياء كلها تعني أن نخضع للبروتوكول، ولو لم يكن ذلك يروقنا.
انتهيت من المراسم الواجبة، وحملتنا المرسيدس السوداء الرئاسية المكشوفة إلى جانب الرئيس، وبدأ الموكب من رتل كبير من العربات السوداء تحرسه أطقم عسكرية أكثر من تلك التي نستخدمها في عدن، في مغادرة ساحة المطار، وقد اخترق الموكب الطريق الطويلة التي تمرّ بصنعاء. وكان للظهور الأول للجماهير في هذا الصباح الصنعاني الجميل، سعادة خاصة لي لا توصف. فهذه الجماهير التي تفاءلت بثورتَي سبتمبر وأكتوبر كآليتين لتحقيق الوحدة، جاءت تصفق لزيارتنا، لأنها تريدها، وهي صاحبة المصلحة الأولى فيها، وتتعطش ليوم إعلانها لكي تنعم بالسلام والاستقرار، ولإنهاء الحروب بين الشمال والجنوب.
كلما توغلنا نحو مركز المدينة، كانت الشوارع تفرز مزيداً من الجماهير في حالة اندفاع تاريخية، مزيداً من هتافات الأعماق النابعة من عمق الروابط الأخوية، حيث ينغمس الهتاف بخفق الأفئدة. كانت أيديهم تلوّح، وأيدينا أيضاً. اتحدت القلوب، ولم يبقَ سوى أن تتحد العقول وتتضافر السياسات لما فيه مصلحتها.
كان لا بدّ لي، في غمرة هذه الأجواء الوحدوية الغامرة بالصدق، أن أعمل على تعزيز السمات الرئيسة التي ميّزت مطلع الثمانينيات بالنسبة إلى الوطن اليمني، وتتويج الجهود الوحدوية الحثيثة التي أعقبت حرب شباط/ فبراير 1979م، وفي سياقها جهود الرئيس السابق عبد الفتاح إسماعيل بعد تلك الحرب بأسابيع قليلة، برعاية أمير دولة الكويت، وبمشاركته الإيجابية، فضلاً عن مشاركة ممثلي لجنة المتابعة العربية. وكان لا بدّ من العمل على تنفيذ ما أثمرته زيارتي الأولى لصنعاء في تشرين الأول/ أكتوبر 1979م وتطويره، وإشاعة أجواء الارتياح التي أثارتها طروحاتي الصريحة مع الرئيس علي عبد الله صالح إبان لقائي الأول معه، منذ أن أصبح رئيساً للجمهورية العربية اليمنية في أعقاب اغتيال الرئيس أحمد الغشمي.
صالح الرئيس المتمرس
ويواصل الرئيس ناصر مستطردا:" في هذا اللقاء الجديد معه، أجد نفسي أمام مسؤولية أكبر، وإزاء تحدٍّ أكثر أهمية، وقد تبوأت موقع الرجل الأول في عدن (الأمين العام للحزب، والرئيس ورئيس الوزراء) بعد أن قدّم عبد الفتاح إسماعيل استقالته من المنصبين الأولين في نيسان/ أبريل 1980م.
كنت أزداد معرفة بالرئيس علي عبد الله صالح في كل زيارة، وتبلورت لغة التفاهم فيما بيننا، وكنت ألاحظ ازدياد تمرّسه في إدارة الدولة، مستخدماً ذكاءه الفطري الواضح، وقد صنع نفسه بنفسه. وكان صالح جريئاً في اتخاذ القرارات الرئاسية غير المدروسة أحياناً. لقد لمستُ ارتياحاً شعبياً لهذه الزيارات والتقارب بين النظامين، وعبّر عن ذلك خروج الجماهير المؤيدة للتقارب والوحدة اليمنية والبحث عن السلام، بدلاً من الألغام.
أول زيارة لرئيس شمالي للجنوب
ويردف الرئيس ناصر وقال :" هل كان النظامان وحدويَّين فعلاً، وهل كانا يسعيان بصدق وبنيّات حسنة لتحقيق الوحدة؟ الإجابة واضحة من طول الطريق الذي سُلك حتى تحقيقها، وليس هناك من داعٍ لنبش الذاكرة المليئة بالخيبات. في الحقيقة، لو كان النظامان مخلصَين كما كانا يزعمان، لوطئت قدما رئيس المجلس الجمهوري، القاضي عبد الرحمن الإرياني، عدن التي لم يعرفها، وتوفي وهو لا يعرفها، للتهنئة بتحقيق الاستقلال في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 (الإمام يحيى لم يعرف البحر)، ولكان مع الجماهير الجنوبية يشاركها الفرحة، ولكان الرئيس قحطان الشعبي في صنعاء فور الانتصار على أعداء الجمهورية الذين حاصروا صنعاء لسبعين يوماً، وانتهت بالنصر اليمني في 8 كانون الثاني/ يناير عام 1968م. وعلى المستوى العربي، أجزم بأنه لولا هزيمة 1967 لكان جمال عبد الناصر شخصياً الذي قال لبريطانيا في تعز في نيسان/ أبريل 1964 إن عليها أن تحمل عصاها وترحل من الجنوب، أو ممثل له رفيع المستوى، مشاركاً لشعب الجنوب احتفاله بالاستقلال، بعد أن عرف أنّ بعض الأجهزة ومَن والاها من اليمنيين ضلّلوه عن حقيقة الوضع خلال الكفاح المسلح ضد البريطانيين لعامين قبل الاستقلال. إنّ الغرض من نكء الجراح، فقط التذكير بسياسة الاسترخاء، بل قل الإهمال، التي اتبعها النظامان نحو الوحدة، وباستهتارهما بمشاعر الشعب وبمصلحته في تحقيق الوحدة، الشعب الذي كانت حساباته الوطنية، ولا تزال، غير حسابات حكامه في كل من عدن وصنعاء. ألا نتذكر كيف سادت الغبطة والتفاؤل عندما كان الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي سيزور عدن في 11 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1977؟
صالح في عدن
ويضيف الرئيس ناصر في حديثه ويقول :" أما عن زيارة الرئيس علي عبد الله صالح، فقد كانت المرة الأولى التي يزور فيها رئيس شمالي عدن منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م. لم يصل صالح جواً، بل عبر معبر كرش على الحدود بين محافظتي تعز ولحج. لا شك في أنّ زيارة الحمدي التي لم تحصل عام 1977م، واغتياله، ألقيا بظلالهما، وكان في ذهنه أيضاً ــ دون ريب ــ الشعبية الكبيرة التي كسبها الحمدي نتيجة توجهه الوحدوي. لقد جرت الزيارة عام 1981، أي بعد خمسة عشر عاماً من استقلال الجنوب. أليس في هذا التأخير دلالة ما بحاجة إلى درس وتحليل، خاصة أن مصدره من كان يزعم، لفترة طويلة سابقة ولاحقة لتلك الزيارة، أنه "الثورة الأم" و"الأصل والجنوب الفرع"، وأنّ الجنوب هو من كان يعرقل الوحدة... إلخ؟
( للحديث بقية)