اللفة الثانية
يقف بصمت يقلب بصره في كل مكان تصل إليه يرقب المشهد بتفحص يدقق النظر في كل من يقترب من الحي الشعبي المكونة منازله من الطين والصفيح والخشب او يبتعد وفي الجانب الأخر يهرول رجل تتراكم على جسده النحيل القاذورات وليس عليه من الملابس إلا ما يستر غليظ عورته وهو يصرخ:
قتلوه ... ومزقوا ملابسه.. سرقوا أمواله
فالمشهد لايريب أحد من سكان الحي الشعبي فليس ثمة شيء يخافون ضياعه وفقدانه .
تقف المرأة الستينية وهي تتكأ على عصا وعلى غير عادتها في الصراخ والولولة تقف هذه المرة برزانة ووقار وقد غيرت من هيئتها فلم تعد ترتدي عباءتها التي بهتت ألوانها فكل ما ترتديه يدل على أنها قد دخلت طورا جديدا وتحورت حياتها وهي في إصرار تدعو أبناء الحي الشعبي للالتفاف حولها والإستماع لما ستلقيه عليهم:
أبنائي وأخواني ابناء الحي الشعبي علينا أن نستثمر حينا الشعبي المطل على ساحل البحر .
ترتفع الأصوات لبعض الحاضرين وتمتزج العبارات وتتداخل حتى لايفهم مقصود الكلام ويسود الضجيج وتعم الفوضى. تضرب الخالة المتحورة بعصاها على الأرض فيتردد صدى قرقعة العصا في المكان وهي تقول:
عليكم الهدوء . انصتوا حتى تفهموا.. وتعلموا الأساليب الحضارية في التعبير.
يعم الصمت في الساحة المقابلة للحي الشعبي كأن أحد غير متواجد ومن نفس الزاوية يقف الرجل الضخم يرقب المشهد مطلق لنظره وسمعه العنان ومن بين أكواخ الصفيح وأكوام مخلفات البناء يهرول السبعيني ويحاول يقترب من التجمهر ويرسل بصره نحو العجوز المتحورة وهو يختبر ذاكرته في التعرف على المرأة التي تلقي الخطاب بعقلانية ووقار ويتمتم بصوت منخفض:.
إنها زوجتي ..العجوز الشعنونة. .. عصبية المزاج ما الذي حصل
مازال يحاول دفع الجموع وتخلل الصفوف ليقترب أكثر من المرأة المتحدثة وهي تنظر اليه مشيرة إلى حراستها منعه من تجاوز الصفوف حتى لا يصل إليها.. تجتمع الحراسة حوله تمنعه من تخطي الصفوف وتجره خارج التجمهر وهو يصرخ.:
إنها أم أولادي.. إنها زوجتي
تلتف حوله الحراسة الخاصة بالمرأة العجوز وتدفعه خارج الحشد المجتمع حول المتحدثة العجوز وهو يصرخ:
عودي إلى المنزل .. لا تثيري غضبي فتنطلق عبارة الطلاق بعد عشرة السنين
تشير إلى حراستها بابعاد الشائب السبعيني وفي عبارتها تهديد :
عليك أن لا تحدث مثل هذه الفوضى عندما أجتمع بمواطني الحي وإلا العاقبة السجن .
يحاول الانفكاك من قبضة الحراسة صارخا:
أنا زوجك ايتها البلهاء
ببرود تجيب:
لقد خلعتك.. واشتريت الحي بأكمله من السكان وسأحوله إلى منتجع وأسواق تجارية ضخمة.
يسود الصمت برهة ثم ينطلق صوت الشيخ السبعيني في تساؤول :
من أين لك كل هذا?
تشير إلى اتباعها كي يرفعوا أصواتهم بتحيتها وتأيدها :
تعيش الخالة .. رئيسة الحي.. تحيا الخالة
يرفع العجوز السبعيني في تساؤول واستفهام:
اين سيذهب سكان الحي؟
يستمر أتباعها في رفع اصواتهم لتحيتها:
تحيا الخالة رئيسة الحي
تلقي المرأة العجوز كلمتها تحاول طمأنت سكان الحي بعد حالة القلق التي احدتثها تساؤولات زوجها العجوز قائلة:
كل السكان سيتحصلون على شقق بدلا عن اراضيهم التي منحوتي إياها في ناطحات السحاب التي ستقام على ارض الحي.
يصرخ الرجل العجوز:
لا تصدقوا وعودها الكاذبة .. سوف تشردون وتسلب بيوتكم منكم
تدفع الحراسة الرجل العجوز بعيدا عن الحشد وهو يحاول فك الوثاق الذي وضعوه حوله فيلقوه بعيدا ومن بعيد ما زال الرجل شديد السواد يرقب الموقف يقترب من العجوز الملقى على قارعة الطريق يأمر مساعديه بمساعدة العجوز ورفعه ووضعه في السيارة السوداء المعتمة النوافذ والعجوز يلهث يحاول التقاط انفاسه بعد ما تعرض للمدافعة من حراسة العجوزة المتحورة من الفقر إلى فاحش الثراء ومن التهميش إلى مطلق المسؤولية يرفع بصره يتفحص ما حوله ينظر إلى وجوه الحاضرين وقبل أن يسأل عن هويتهم تنطلق السيارة في سرعة خارقة حتى تغيب عن مسرح الحشد في الحي الشعبي
تجلس على قارعة الطريق إمراة ثلاثينية ينام صغارها على حجرها رافعة صوتها تطلب المساعدة:
منذ الأمس لم نتذوق الطعام
تتطاير نحوها وصغارها حبات الغبار وبعض الأوراق التي اندفعت عن سرعة انطلاق السيارة تمد يدها تتفحص ما طار نحوها فإذا بها عملة نقدية ليست من عملة البلاد ترفهعا بسرعة حتى لايراها أحد وتضعها في كيس معلق في صدرها وهي ترفع الصوت:
ساعدوني وتفضلوا علينا ببعض الطعام
مازالت العجوز تلقي خطابها ووعودها في تحويل الحي الشعبي إلى مدينة خرافية تتحقق فيها كل أحلام السكان :
في مدينتنا المستقلة ستتحقق كل طموحاتتا ولن يكون بيننا فقير او جائع
مجددا ترتفع أصوات مؤيديها وانصارها :
تحيا رئيسة المدينة
تتقدم العجوز قليلا لترفع الستار عن علم المدينة وفي صمت يسود المكان يرتفع العلم الذي تمسك العجوز بحبال تجره نحو فضاء المدينة يحلق في فضاء المدينة مرفرفا بالوانه الزاهية ويرتفع التصفيق والهتفات:
تحيا جمهوريتنا الصاعدة
تغادر المرأة العجوز المكان تقترب سيارة سوداء ضخمة ينزل الرجل الضخم شديد السواد يستقبلها حتى تجلس عل. احد المقاعد الخلفية وتنطلق السيارة في سرعة جنونية وتغيب عن الحشود التي ما زالت متجمهرة
عصام مريسي