يستخدم اللحجي هذه التعابير: (قال/ قلت أوووع!!.. لش تخليني قول أوووع!!)، ليس للتعبير عن إفراغه لما في معدته عند المرض أو عند الحاجة إلى فعل ذلك وحسب، وإنما أيضاً للتعبير، مجازاً، عن إفراغ ما في صدره عندما يضيق بما لا يُقال.
ما من شك في أن قصيدة القمندان ( أشرقت أنوار لحج من عدن)*¹ التي ألقاها في حفل استقبال أخيه السلطان عبد الكريم فضل ( 1915/ 1918- 1947 م) العائد من جولة له في بعض الدول الأوروبية.. هذه القصيدة كانت تنفيساً عما في صدره من تراكمات نتجت عن انتقاداتٍ مناهضةٍ لأسلوب أخيه في إدارة شؤون السلطنة، وطباع ليست بالسَّوية ولا تليق بحاكم، الأمر الذي أوصل الأمور حد التآمر عليه للتخلص منه ومن ابنه ( فضل عبد الكريم) الذي كان يُعِدُّه ليكون خليفته على كرسي السلطنة.
كان القمندان يعلق آمالاً يرجو تحقيقها خلال حكم أخيه للسلطنة، لكن، وكما يبدو من خلال القصيدة، أن آماله تلك قد خاب رجاؤه فيها في الفترة السابقة المنقضية من حكم أخيه، ولم يتبقَّ للقمندان غير المناشدة والرجاء في أن يكون في ما تبقى من فترة حكم أخيه خير للسلطنة وأبنائها، وذلك بعد أن ضرب له الأمثلة على صلاح أنظمة الحكم في البلدان التي زارها و التي حققت لشعوبها وبلدانها المنجزات العِظام وسارت بها في موكب التقدم والرُّقي بفضل امتلاكها لناصية العلم، آملاً من وراء ذلك استفادة أخيه وتَعَلُّمه منها.
كان القمندان يعرف الطِّباع التي تَمَلَّكَت أخاه قبل حكمه للسلطنة وذلك من حيث ميله الشديد نحو الإثرة وحب الذات والجشع و الغيرة، رغم ثقافته وتعليمه الحديثين*² ( بالنسبة لذلك الزمن).. تلك الطباع التي لم يعمل على التخلص منها في فترة حكمه، وبسببها أفتقد حُب والتفاف رعايا السلطنة حوله، وأعطى، بالتالي، للبيوت العبدلية المعارضة*³ فرصة لنقد حكمه للسلطنة ومحاولة الإنقلاب عليه، بل ووصل الأمر حد القيام بمحاولات لقتله وقتل ولي عهده ( السلطان فضل عبد الكريم).*⁴
هذه القصيدة مثلت، في رأيي، جلسة محاكمة علنية لأخيه ونظام حكمه للسلطنة، وكان القمندان هو قاضيها. وَجَّهَ له أسئلة مُحرِجَة عن ما شاهده في البلدان التي زارها، قارن فيها أوضاعها بتلك السائدة في السلطنة، واستعرض فيها الحال الذي آلت إليه بعض الأمور في السلطنة وما يعانيه رعاياها بسببها. نعم، كانت محاكمة وإن لم تَخلُ من نُصح وتعاطف القاضي مع أخيه، بل ودعاؤه له بالهداية والرشاد.
وليس مستغرباً القول بأن القمندان كان بمثابة الحائط الذي صَدَّ عن أخيه كيد المتآمرين الطامحين للجلوس على كرسي حكم السلطنة، والذين كان من بينهم من اختار المعارضة السلمية ( بيت فضل محسن)، ومنهم من اختار طريق العنف والسلاح ( بيت مهدي بن علي).*5 وقد فعل القمندان كل ذلك من خلال تواضعه ومحبة و احترام الناس له، وعلاقاته الطيبة مع الكل.
كما كان لإبداعات القمندان في مجالي الفن والزراعة متنفساً كذلك للكثيرين من رعايا السلطنة وأمرائها، صرفتهم عن التفكير في ظلم وأنانية الحاكم، رغم ملاحقته لهم بإجراءات جائرة*6.
وكان القمندان قد تولى رعاية ابن أخيه ( السلطان فضل عبدالكريم، لاحقاً) الذي تضرر من الأسلوب الذي انتهجه أبيه في حكم السلطنة، وعدم قبوله النصح، ومن إصراره كذلك على مخالفة العُرف والتقليد السائدين في السلطنة العبدلية في اختيار وتداول الحكم بين البيوت العبدلية الخمسة والتي دفع هو( نجله) ثمنها بدلاً عن أبيه. فقد تعرض لمحاولتي اغتيال؛ نجا من الأولى وأورثته الثانية عاهات نفسية وجسدية.
وبموت القمندان (1943م) إنكشف ظهر أخيه ، ولولا أن سخر الله له ولولي عهده، خَلَفَه الصالح ( علي عبد الكريم فضل) لربما تمكن منه المتربصون به وبكرسي السلطنة، رغم أن المرض ( النفسي والعضوي) قد أصاباه وتمكنا منه في أواخر أيام حكمه حتى وافاه الأجل في 1947 م، بعد فترة حكم طويلة(32 سنة).
رحم الله جميع من ذكرت في مقالتي هذه.
***
القصيدة :
(طلعت أنوارُ لحجٍ من عدن)
***
طلعتْ أنوارُ لحجٍ من عدنْ
فاسقِها يا أيُّها الوادي تُبَنْ
جاء مولاها فولّى كربُها
وتوارى الحُزنُ عنها والشَّجَنْ
أنتَ مولانا و مِن آمالِنا
فيك تكفينا مُلِمّات الفِتَنْ
رَحَّبت لحجٌ بكم فاستقبلوا
بِحَنانٍ صوتَ أبناءِ الوطنْ
عرَّفَتْنا أنَّ من آدابِها
حُبَّ مولاها كَفَرضٍ وسُنَنْ
بِكَ فلنَحيا وفَلتحيا بِنا
سِرْ بنا بالرِّفقِ في النَّهجِ الحَسَنْ
كيفَ أوروبَّا وما شاهدتموا؟
أسويسرلَند وحشٌ كاليَمَن
أعراةٌ أجياعٌ أهلُها؟
في شقاءٍ جهلٍ وبؤسٍ ومِحَنْ
أم رجالٌ أحرزوا العلمَ
وفازوا بِسُعْدٍ فتلقّوا كل فَنْ؟
أدَرَيتُم كيفَ فاقُونا وهَل
قد بَذَلتُم في التَّحَرَّي مِن ثَمَنْ؟
كيفَ طاروا في السَّمَاءِ واستَخدَموا
البَرقَ حتى أذعَنَ البرقُ ودَنْ؟*¹
هَل جَلَبتُم مَعَكُم مِن قَبَسٍ
جَمرةً من نارهِ تَكوي الإحَنْ؟*²
من لِقَحطانَ وعَدنانَ إلى المَجدِ
داعٍ بِالهُدى في النَّاسِ مَنْ؟
إنَّ قَلبي لَم يَعُد في أضلُعي
َّكُلُّما حَسَّ بِشَقاء العُرْب أَنْ
هل نرى السِّكَّة والقَطرَ على الشَّامِخَات السُّود تَجري بِالغدَنْ؟*³
أو لِسَيَّاراتِنا قَد خَرَقَت
طُرُقاً تَحتَ الثَّرى ذاتَ شَجَنْ؟*⁴
ونَرَى طَيَّارَنا تَحتَ السَّماء
يَختَفي بَينَ سَحَابات طَبَنْ؟*5
ودُخَّاناً لِلمَعَامِل أمْلَأَ الجَّوَّ
حَتى غَيَّبَ الشُّمسَ وجَنْ*6
أُمَّةَ المُختَار وا لَهَفي لَقَد
خَيَّّمَ الجَّهلُ عَلَيها ودَفَنْ
كُلَّما جَمَعَه أربابُها
زَكَواتٍ أنفقوها في دَدَنْ*7
فيكَ أمالٌ لَنا قَد عُقِدَتْ
فاتَّقِ اللهَ وحَسُنَ فيهِ ظَنْ
سِرْ بِنا في مَنهَجِ الخَيرِ فَقَد
بارَكَ الرَّحمٰنُ مَسعَاكَ ومَنْ*8
سِرْ بِنا إلى الخَيرِ بِلا مَهْلٍ وإنْ قَلَّت الأسبابُ إنّ السُّعدَ عَنْ*9
إنّ أصلَ النُّورِ بِالمِصباح في مَصدرِ النُّور الضَّئيلِ المُمتَهَنْ
لو شَكَتْ لَحجٌ من الزَّحو*10 فَقَد خَرَقَ الأَحشاءَ مِنها وطَعَنْ
عَبَثٌ مِنهُ القُرى قَد أَقفَرَت11
إنَّ نِصفَ الناسِ عَنها قَد ظَعَنْ*12
فإلى اللهُ مُناجاةُ القُرى
وشُكا الحارات مِن قِلِّ السَّكَن
أَنتَ راعِينا فَحَقِّقْ ظَنَّنَا
فِيكَ واصفِحْ وتَسَامحْ وتَأَنْ
يا أبا الفَضلُ ودُمْ في عِزَّةٍ
حاكِماً في لحجٍ مادام الزَّمَنْ
وطني أفديكَ لحجاً من وطَنْ
فاسقِها يا أيُّها الوادي تُبَنْ
***
*¹أُلقيت القصيدة في يوم الأحد الموافق الرابع من محرم 1343 هـ
*²كل أبناء السلطان فضل بن علي محسن ( والد القمندان) تلقوا تعليماً حديثاً وأجادوا اللغة الإنجليزية
*³بيتا فضل محسن ومهدي بن علي
*⁴محمد علي لقمان (رجال وشؤون وذكريات)
*5 الاستئثار بتجارة بعض السلع الزراعية وحصر أسبقية الري من مياه السيول لأراضي السلطان والأمراء العبادل.
***
معاني بعض المفردات في القصيدة
*¹ ودَن: خضع لهم/ تمكنوا من تطويعه
*² الإحََن: حقد وضَغَن، غضب وعداوة
*³ بالغَدَن: في الغد القريب
*⁴ ذات شجن: تستثير مشاعرنا وعواطفنا
*5 سحابات طَبَن: سحابات يعتصر منهن الماء
*6 ددن: أمور ليست ذات نفع
*7 وجَن : يُقال جَنَّ الليل إذا أظلم واشتد ظلامه
*8 مَنّ: وَهَبَ، أنْعَمَ على
*9 عَن: بدا، ظَهَر
*10 الزَّحو : الري الثاني/ الإضافي للنبات، خاصة الحبوب
*11 أقفرت: خَلَت من ساكنيها
*12 ظعن: غادر، رحل
***