آخر تحديث :الأحد-23 فبراير 2025-02:59م
ملفات وتحقيقات

تقرير: إلى متى سيستمر غياب الدولة في اليمن؟

الثلاثاء - 23 يناير 2024 - 09:41 ص بتوقيت عدن
تقرير: إلى متى سيستمر غياب الدولة في اليمن؟
(عدن الغد)خاص:
تقرير يتحدث عن دور الدولة الاعتيادي ومسئولياتها تجاه مواطنيها ومقارنته بدور الدولة اليمنية في الوقت الراهن..

لماذا تنعدم الخدمات وصرف المرتبات.. ولماذا يتواصل انهيار سعر الصرف دون أي تدخل؟

الشراكة السياسية العرجاء بين مختلف الأطياف السياسية كيف أنتجت شكلاً مشوهاً للدولة؟

(عدن الغد) القسم السياسي:

مرّ مفهوم الدولة في تاريخ الإنسان المعاصر بالعديد من المراحل المتأثرة بالأيديولوجيات والأنظمة السياسية والاقتصادية المتباينة في العالم، ففي الوقت الذي كان الغرب يمتلك رؤيا خاصة به، لم يكن الشرق بمنأى عن رؤيته الخاصة تجاه مفهوم الدولة ودورها تجاه رعاياها وعلاقتها بهم، وهما رؤيتان مختلفتان لدرجة التناقض.

ففي ظل النظام الليبرالي الرأسمالي الذي تبنته الدول الغربية، كان دور الدولة مقتصرا على الرقابة والإشراف في كل المجالات، بما فيها الخدمات العامة، وترك الأسواق حرة، للتنافس بين التجار وأصحاب رؤوس الأموال، دون أن تتدخل الدولة إلا في مجال وضع القوانين المنظمة التي تعمل على تنظيم وترتيب العلاقة بين التاجر والمواطن وحفظ حقوق هذا الأخير من أية تجاوزات.

بينما على الجانب الآخر، كان النظام الاشتراكي، الذي تبنته البلدان الشرقية، يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس، ويقدم نفسه مسئولا عن خدمة المواطنين وتوفير كافة خدماتهم، منعا للاحتكار، ولم تكن الحرية الاقتصادية أو حتى السياسية متاحة، كون هذا النظام يمارس مهام الدولة انطلاقا من المسئولية العامة، وحتى لا تتغلب طبقة مجتمعية ما على بقية الطبقات؛ بهدف أن يكون الجميع متساوون ماديا وخدميا وبلا أية فوارق.

وفي بلادنا اليمن، انقسم شطرا البلدين فيما يتعلق بتبني النظامين أعلاه، فكان الشمال أقرب للنظام الرأسمالي والليبرالي اقتصاديا فقط، غير أنه لم يكن كذلك سياسيا، بينما انغمس الجنوب في التجربة الاشتراكية وعمل على تطبيقها بكل تفاصيلها في مجتمع كان ما يزال محافظا، لهذا أوقفت الدولة الجنوبية كل الامتيازات الاقتصادية واحتكرتها بيدها، وتولت مسئولية القيام بكل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، من خدمات وأمن وتنمية ومشاريع، وحتى اختيار من يرأسونه.

لكن خلال فترة للوحدة اليمنية، منذ العام 1990 حتى العام 2014، كانت الدولة اليمنية تتأرجح بين القيام بمسئولياتها تجاه رعاياها أو التخلي عن هذه المسئولية، غير أن المواطن حينها كان يستشعر وجود الدولة حتى وإن كانت جوانب القصور واضحة وبينة في كثير من المجالات والقطاعات، غير أن الإحساس بوجود الدولة كان ملموسا، خاصة إذا قارناه بالشعور الموجود اليوم، والذي لا ذكر فيها للدولة أو مؤسساتها وتدخلاتها لإنقاذ ما تبقى مما يمكن إنقاذه.

وهو شعور تولد عقب حرب عام 2015، والتي ما زالت رحاها دائرة حتى اليوم، ورغم الألم الذي خلفته، إلا أن أبرز تداعياتها أنها غيّبت عن المواطنين اليمنيين الشعور بوجود الدولة، سواءً في الشمال أو في الجنوب، في المناطق المحررة، أو تلك الخاضعة لسيطرة المليشيات الحوثية، فالجميع في كل المنطقتين يشتاق لعودة الدولة وفرض هيبتها وتوفير خدماتها، غير أن الواقع بعيد عن كل هذه الأشواق.

> واقع أليم

درجت مليشيات الحوثي الانقلابية في اليمن على نهب أموال الدولة اليمنية منذ الوهلة الأولى لعملية إسقاط العاصمة المختطفة صنعاء، ولم تكتفِ بذلك، بل عملت على ابتزاز المواطنين وإرغامهم على دفع إتاوات غير قانونية، وهو أمر يجعل من الحديث عن مطالبة الحوثيين بتوفير الخدمات العامة للمواطنين أو المرتبات أو القيام بأية مسئولية تجاه الناس القابعين في مناطقها التي تسيطر عليها أمرا مستحيلا، بينما هي تنهبهم بدلا من أن تعطيهم.

ولهذا فإن المواطنين في مناطق سيطرة الحوثيين تكبدوا أبشع أصناف المعاناة والحرمان، ويأتي على رأس هذا الحرمان منع صرف المرتبات طيلة نحو ثماني سنوات أو يزيد على ذلك، بالإضافة إلى تخلى سلطة الأمر الواقع الحوثية عن مسئولية توفير الخدمات العامة، والتهرب من التزاماتها التي تعي أنها غير ملزمة بها أصلا؛ عطفا على طبيعة الكيان الحوثي المسيطر على الأرض والمقدرات.

لكن سيطرة الحوثيين على المناطق الخاضعة لهم في شمال اليمن، تمثل سيطرةً مليشاوية، وليست سيطرة دولة مسئولة عما تقوم به، ومسئولة عن رعاياها ومواطنيها، وهو ما لا تقوم به مليشيات الحوثي، كونها مجرد مليشيات وليست دولة بالمعنى المسئول للدولة، والحوثيون راغبون في البقاء داخل هذا النطاق والإطار الذي صنعوه لأنفسهم، وهو عدم التحول إلى دولة، والبقاء فقط كمليشيات وجماعة، تهربا من المسئوليات المناطة بالدولة، ولهذا نرى كل هذا الحجم من المعاناة في مناطق سيطرة هذه المليشيات.

على الجانب الآخر، تتحدث الحكومة اليمنية الشرعية، المعترف بها دوليا، أنها تمثل الدولة في المناطق الواقعة داخل نطاق سلطاتها، والمعروفة بالمناطق المحررة، لكن هذه الدولة التي تتحدث عنها الشرعية لم تقم هي الأخرى بأعمال تؤكد هذه الادعاءات، وإن كانت الأوضاع في مناطق سيطرة الحوثيين أسوأ بكثير من مناطق سلطات الحكومة، غير أنها ليست مثالية، وتكشف إلى حد كبير مدى غياب الدولة، وحجم التأثير الحاصل في الخدمات والتنمية والاستقرار الأمني؛ نتيجة لهذا الغياب.

حتى إن المكونات السياسية الأخرى المسيطرة على مناطق جزئية من البلاد، مثل قوات حراس الجمهورية في الساحل الغربي، من اليمن، أو المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يفرض سلطاته في محافظات عديدة من جنوب البلاد، لكنها هي الأخرى تنأى بنفسها عن مسئولية توفير الخدمات للمواطنين، رغم أنها قوى مشاركة في قوام الحكومة اليمنية، كما أن لديها قدرات وإمكانيات -وفق ارتباطاتها مع داعميها الإقليميين- تؤهلها للقيام بمهمة توفير الخدمات أو صرف المرتبات، غير أنها لا تستثمر مثل هذه التحالفات أو العلاقات لانتشال المواطن مما هو فيه من معاناة.

وعليه، فإن هذا الواقع الأليم لكل مناطق اليمن، شمالا وجنوبا، وغربا وشرقا، لا يمكن تحميله جهة معينة بحد ذاتها، أو طرفا سياسيا بعينه، ولكنها مسئولية جميع الأطراف المتصارعة في مختلف أنحاء البلاد، التي تخلت تماما عن المواطنين عن القيام بالمسئوليات المناطة بتلك الجهات باعتبارها أطرافا ذات سلطة، وتفرض نفوذها وسيطرتها على المناطق التي تقع تحت يديها، وبالتالي تستحوذ على الإيرادات والأموال من تلك المناطق، وهو ما يحملها مسئولية واضحة شاءت أو أبت.

> مظهر الدولة المشوه

قد تكون مليشيات الحوثي بعيدة تماما عن الاستعداد لتنفيذ أية التزامات، أو توفير الخدمات العامة للمواطنين في مناطق سيطرتها، كونها لا تعترف بنفسها أنها دولة بمفهومها المتعارف عليه دوليا، لكن ما يؤلم أكثر أن الأطراف اليمنية الشرعية أو تلك الجنوبية المتواجدة في المناطق المحررة هي دائما ما تتحدث عن الدولة، سواءً تلك الدولة القائمة -أو ما تبقى منها- التي تتبناها الشرعية، أو الدولة التي يبشر بها المجلس الانتقالي الجنوبي ولما تأتي بعد في ظل الأوضاع التي تعيشها البلاد، والتجاذبات السياسي التي راحت ضحيتها.

والحقيقة أن العلاقة بين الحكومة اليمنية وبين المجلس الانتقالي الجنوبي تجعلهما في بوتقة واحدة لكيان بات مشتركا بينهما، وصار كل طرف منهما جزءا من هذا الكيان، وهو الشرعية، فكلاهما أصبح شرعية بحكم الشراكة السياسية التي ربطتهما مع بعضهما البعض، بالإضافة إلى بقية القوى والمكونات السياسية والحزبية والعسكرية الأخرى، كما هو حاصل في مجلس القيادة الرئاسي اليمني، وفي الحكومة.

لكن الغريب أن هذه العلاقة، أو الشراكة السياسية بين الجهتين، خلقت مولودا مشوها ناتج عن هذه العلاقة، لا الدولة تواجدت ولا الخدمات توفرت، رغم أن الجانبين كانا يكيلان لبعضهما البعض التهم بالتورط في حرمان المواطنين من الخدمات أو تعذيبهم بورقة الخدمات، أو منع الحكومة من القيام بمهامها نتيجة السيطرة على مؤسسات الدولة الخدمية، كما كان يروج له البعض خلال سنوات ما قبل الشراكة بين الانتقالي والشرعية.

وفي الأخير، وجد الناس أنفسهم أمام شكل غريب من الدولة، تتهرب من مسئولياتها، بينما المواطنون بلا خدمات وبلا مرتبات، ودون أي تدخل لإنقاذ سعر صرف الريال اليمني الذي تهاوى إلى مستويات خطيرة عكست تأثيراتها على الحياة المعيشية للبسطاء، نتيجة الشراكة السياسية العرجاء الناتجة حاليا في المناطق المحررة، والتي لم تحقق أي تقدم خدمي أو تنموي، ولم تشعر الناس أن هناك دولة حقيقة متواجدة، لا من ناحية تنظيم ومراقبة الحياة، ولا من ناحية التدخل بكل صغيرة وكبيرة من تفاصيل الناس.

بل وباتت اليمن تعيش نظاما سياسيا واقتصاديا لم يشهد له العالم مثيلا، نظام يضم الجميع في نطاق جغرافي عام يطلق عليه الآخرون والعالم اسم "اليمن"، بينما كل منطقة تعيش أوضاعا غير متصلة بأوضاع من يجاورها من مناطق، عطفا على نوعية السلطة المسيطرة هناك والمتحكمة بشئون تلك المناطق، وهي سلطات لا يعنيها ما يجري من ابتزاز للناس والمواطنين، بل إنها بعض أعضائها يمارسون هذا الابتزاز والتعذيب والحرمان الخدمي والتنموي، ما يجعل مفهوم الدولة في اليمن مفهوم متفرد وليس له مثيل على مستوى العالم أجمع، هو بالتأكيد مفهوم مشوه.