آخر تحديث :الثلاثاء-08 أبريل 2025-10:54م

العطاء درسًا في الكرامة، قبل أن يكون سدًّا للحاجة.

الأربعاء - 12 مارس 2025 - الساعة 01:59 ص
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب


ليس العطاء أن تُخرج من جيبك بعض المال، ولا أن تمدّ يدك إلى محتاج بشيءٍ يسدّ جوعه أو يستر جسده، إنما العطاء روحٌ تُسكب، ومشاعر تُغلف اليد المعطية قبل أن تصل إلى اليد الآخذة. العطاء ليس دفعةً باردة من دراهمَ معدودة، بل دفءٌ يغمر القلب قبل الجسد، وكرامةٌ تحفظ ماء الوجه قبل أن تملأ البطن.


يروي الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، قصةً تُجسّد هذه الحقيقة ببساطةٍ مذهلة: ابنته تحمل بعض الطعام للحارس، لكنّه طعامٌ وُضع في صينية دون ترتيب، كأنّما هو فضلُ مائدةٍ أُرسل كيفما اتفق. لم ينهها عن العطاء، لكنه علّمها كيف يكون الإحسان فنًا، فقال: "رتّبي الطعام، ضعيه في صحونٍ منفصلة، أضيفي كوب ماء، لا تنسي الملعقة والسكين".


لم يكن ما أضافه سوى لمساتٍ صغيرة، لكنها صنعت فرقًا هائلًا بين لقمةٍ يتناولها الجائع كمن يستجدي، ولقمةٍ يتلقّاها وكأنه ضيفٌ كريم. الأوّل يُشعره بأنه فقيرٌ تُرمى إليه بقايا الأكل، والثاني يملأ قلبه امتنانًا لأنه قُدّم إليه بإكرام، وكأنّه صاحب حقّ، لا متسوّلٌ يطرق الأبواب.


المال يسدّ الحاجة.. ولكن الإحسان يملأ القلب


كم من أيدٍ تنفق بسخاء، لكنّها تُلقي بالعطاء وكأنّها تتخلّص من عبءٍ ثقيل، فتبقى قلوب أصحابها مغلقةً، لا يشرق منها نور الرحمة! وكم من كفٍّ لا تملك إلا القليل، لكنها تُعطيه بلمسة حبٍّ، وكأنها تمنح الدنيا بأسرها.


الإحسان ليس ترفًا.. بل جوهر العطاء


كم من يدٍ تمتدُّ بالمال لكنها تبقى باردة، وكم من بسمةٍ تُغني فقيرًا أكثر من دراهم كثيرةٍ قُدّمت بجفاء. العطاء الحق هو الذي يحمل بين طياته الرحمة، فلا يُشعر المحتاج بأنه متسول، بل بأنه صاحب حقٍ يأخذه بكرامةٍ وعزة نفس.


وفي هذا المعنى العظيم يقول النبي ﷺ: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، فكيف بمن يعطي ويسقي ويواسي بابتسامةٍ وكلمةٍ طيبة؟ إنّ الحسن البصري كان يقول: "لا يتم المعروف إلا بثلاث: تعجيله، وتصغيره، وستره"، فكأنما يختصر لنا آداب الإحسان في صورةٍ عمليةٍ راقية.


كيف نحسن العطاء؟


1. أعطِ بروحٍ مشرقة: لا يكن عطاؤك جامدًا، بل اجعله ممتلئًا بالرحمة والدفء، فالكلمة الطيبة تسبق اليد المعطية.



2. احترم المحتاج: لا تجعله يشعر بالنقص أو الذل، بل عامله كإنسان كريم له مكانته.



3. التفاصيل تصنع الفرق: كما في قصة الطنطاوي، فالعطاء لا يكون بالمادة فقط، بل بالطريقة التي يُقدَّم بها.



4. السرية تُعزز القيم: تصدّق بعيدًا عن أعين الناس، فلا تجعل عطائك مشهدًا استعراضيًا يحرج المحتاجين.



5. ادعُ لمن تعطيه: الدعاء لمن تُحسن إليه يضيف بعدًا روحيًا للعطاء، فتشعره بمحبتك وصدق نيتك.




الصدقة الحقيقية: مالٌ وعاطفةٌ وسلوك


إننا حين ننفق، فإننا لا نعطي المال فقط، بل نعطي قطعةً من إنسانيتنا، من رحمتنا، من قيمنا الراقية. وما أجمل أن يكون العطاء مزدانًا بالأدب، والكرم ملفوفًا بالمحبة! عندها، لا يكون المحتاج وحده المستفيد، بل نكون نحن أيضًا ممن يدخلون في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".


فلنتعلم كيف نعطي بكرمٍ، لا بمنة، ولنتقن فن الإحسان، فإنّه عبادة القلوب الراقية.


"لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ"

ليس فقط من المال، بل من الحبّ، من الاهتمام، ومن العاطفة الصادقة التي تجعل العطاء درسًا في الكرامة، قبل أن يكون سدًّا للحاجة.

—-------

✍️ عبدالعزيز الحمزة

١١ رمضان ١٤٤٦ هجري

١١ مارس ٢٠٢٥م