آخر تحديث :الخميس-10 أبريل 2025-02:00م

وطنٌ على حافة العتمة

الأربعاء - 19 فبراير 2025 - الساعة 01:19 م
صفوان سلطان

بقلم: صفوان سلطان
- ارشيف الكاتب


في مدينةٍ اعتادت أن تضيء لياليها بمصابيح الأمل، صار الظلام سيد المشهد، والشمس التي كانت تشرق حاملة معها وعود الصباح، باتت تُلقي بظلال الخيبة على جدران البيوت المرهقة. لم يعد الفجر يحمل بشارة يوم جديد، بل صار مجرد امتدادٍ لليلٍ طويل، تختنق فيه الأحلام كما يختنق العطشى في صحراء بلا سراب.

في عدن، كانت الأزقة تفيض بضحكات الأطفال، لكن صوت الجوع صار أعلى من أي ضحكة، والأرصفة التي كانت معابر للحياة، تحولت إلى مقاعد انتظار لأحلام مؤجلة. هناك، حيث اعتاد المعلمون أن يخطّوا دروب المستقبل بأيديهم، صاروا اليوم يخطّون أشكالًا عشوائية على تراب الأرصفة بغصون يابسة، كأنهم يبحثون عن إجابة لسؤال لا يعرفونه. لم تعد السبورة نافذتهم إلى المعرفة، بل باتت الأرصفة صفحاتٍ سوداء تروي قصص الخذلان. جفت أقلامهم كما جفت أرواحهم، فأصبحوا يجلسون بلا موعدٍ للعودة، بانتظار حقوقٍ ذابت كما يذوب الملح في البحر، ووعودٍ تلاشت كدخانٍ في مهب الريح.

أما الأسواق، فصارت كحلبات صراع بلا أصوات، تُنصب فيها أعين الفقراء على السلع كما تُنصب عيون المهاجرين على شواطئ الأمل البعيدة. تتسابق الأسعار في الصعود، بينما الرواتب تتساقط كأوراق الخريف، لا تكاد تلامس الأيدي حتى تتلاشى في دوامة الغلاء. البيوت، التي كانت تحلم يومًا بسقفٍ يظلّلها، صارت تحلم بمصباحٍ يضيء ولو للحظات، وبصنبورٍ يقطر ماءً كما يقطر الصبر من قلوب أهلها.

وفي أروقة القرار، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصالح، تُسلب حقوق الناس بجرة قلم، وتُوزع أملاك الدولة كما تُوزع الهدايا في ليلة عيد. ساحاتٌ كانت تنبض بالحياة، صارت ممتلكاتٍ خاصة، وأوراقًا تُوقَّع في عتمة الغرف المغلقة، حيث تُمنح الأرض لمن يملك الختم لا لمن يملك الحق، وتُباع بثمنٍ بخسٍ كما تُباع الأخلاق في أسواق النفاق.

عدن اليوم ليست عدن التي يعرفها أهلها، واليمن لم يعد اليمن الذي حلم به أبناؤه. المدن صارت كأشباحٍ تسير بلا وجهة، والشوارع باتت متاهاتٍ بلا مخرج، والناس يطاردون سرابًا في صحراء من الأزمات. لكن الأخطر من كل هذا أن أجيالًا تُسحب نحو هاوية المجهول، إلى مدارس موصدةٍ بأبواب الصمت، وكتبٍ مهجورةٍ على رفوف النسيان، إلى مستقبلٍ تُخط ملامحه أيادي الفساد والمحسوبية.

كيف يمكن للحياة أن تنبت في أرضٍ تُروى بالخيبة؟ كيف يمكن أن يولد الأمل في وطنٍ يستهلكه الخراب؟ حين تُطفأ المدارس، وتُنهك الأمهات في رحلة البحث عن لقمة، وتُباع الأرض كما يُباع الهواء، يصبح الأمل ترفًا لا يملكه الفقراء، ويصبح الوطن مجرد ذكرى تُروى في قصص العجائز، عن زمنٍ كان فيه الصباح يحمل شيئًا من النور.