مثلت الوحدة اليمنية الحلم الذهبي الذي ظل ينتظره أبناء الجنوب والشمال على حدٍ سوى، فكان الإخوة في الشمال يعتقدون أن الوحدة ستقضي على الاغتيالات والانقلابات عندهم، وتعمل على وقف نزيف الدم والفوضى التي يثيرها بعض العسكر، وتهيئ لدولة آمنة مستقرة تنافس دول الخليج في شتى المجالات، وتحفظ لهم أرضهم التي ظلت مهددة جراء التوسع الجغرافي السعودي على حساب دول الجوار.
أما في الجنوب فكانت الظنون الشعبية تصب في اتجاه أن الوحدة ستمزق العصبة الاشتراكية وتقضي على أفكار لينين وماركس الشيوعية التي فُرِضت على أبناء المحافظات الجنوبية من خلال المناهج التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات.
إضافة إلى الطموح بالخلاص من الانقلابات السياسية ووقف الحروب المناطقية التي ظل يعاني منها أبناء الجنوب بسبب الاقتتال الذي حدث بين الطغمة والزمرة.
وكانت فكرة التكامل الاقتصادي والصعود باليمن عسكريا إلى مراتب متقدمة والنهوض بكل المستويات في البلاد هو الهدف الأبرز لتحقيق الوحدة اليمنية، إضافة إلى الدافع القومي الوطني الذي كان في ذروته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
ولأن الوحدة اليمنية وقعها رموز الحكم في الجنوب والشمال ( علي سالم البيض وعلي عبدالله صالح) الذين وصلا للحكم بطرق غير شرعية يغلب عليها الطابع الدموي، لم يكن أمام الشعبين الجنوبي والشمالي بد من الاحتفاء بها بصرف النظر عن طريقة وآلية تنفيذ حلم الوحدة الذي ظل يوارد كل اليمنيين، ففي نهاية المطاف بالنسبة للشعبين قد تحققت الوحدة وتحقق حلمهم المنشود.
وبعد التوقيع على الوحدة لم ينتظر علي عبدالله صالح طويلًا لكشف وجهه العنصري المناطقي القبيح، فبدأ بتهميش الضباط الجنوبيين ومعاملتهم بدونية ودرجة ثانية وإساءة التصرف في كل المكاتب الحكومية، الأمر الذي دفع بعلي سالم البيض بإعلان فك الارتباط في 21 مايو 1994م، أي بعد 4 سنوات من وحدة لم تكن طريقة دخولها والخروج منها طريقة شرعية.
بعدها جرت أحداث الحرب وسيطر علي عبدالله صالح على كل الجنوب، وبدل أن يطيّب خواطر الجنوبيين ويعاملهم معاملة عادلة منصفة ويشعرهم أنهم جزء من اليمن، قام بالتعامل معهم بأساليب عنصرية بغيضة يمكن تفسيرها بحالة انتقام حقيقي من نظام صالح.
فقام عفاش بإبعاد عشرات الالاف من الضباط والجنود الجنوبيين واستبدالهم بأبناء الشمال، وعين محافظين شماليين على المحافظات الجنوبية، حتى على مستوى مكاتب الفرعية للوزارات في المديريات، إما أن يكون مدير المكتب شمالي أو نائب المدير شمالي.
وكذلك في القضاء لا يتم تعيين قاضي في المحافظات الجنوبية إلا من مواليد الشمال، والحال في جميع المؤسسات الحكومية في المحافظات الجنوبية.
كان وضع صعب للغاية بالنسبة للجنوبيين مليء بالعنصرية والظلم والباطل، فكلما أردت الحصول على معاملة عليك أن تدفع الرشوة ( حق القات) التي لم يكن أبناء الجنوب يتعاملون بها في دولتهم السابقة حيث كان النظام والقانون هو السائد، حتى على مستوى الأمن فلم يكن يخرج طقم الأمن في حال حدوث مشكلة إلا بالمال وغالبا بعد الوصول لإدارة الأمن ينتصر صاحب المال والجاه والنفوذ ولو كان هو الغلطان، لأن الدولة كانت مع القوي ضد الضعيف.
وكان يتعرض المواطن خاصة في المحافظات المسالمة مثل حضرموت وعدن للتنمر والإساءة والألفاظ العنصرية والمعاملة المهينة السيئة من قبل الموظفين الشماليين الذين ينتمي جلهم لقبائل عفاش.
فضلا عن ما كان يلاقيه المواطن من إهانة وإذلال من قبل نقاط التفتيش التابعة للأمن المركزي والقومي في الطرقات الرابطة بين المديريات، حتى امتدت المعاملة السيئة لتشمل " بعض" أصحاب المحال التجارية من أبناء الشمال الذين كانوا يسيئون معاملة المشتريين في الأسواق، ويتحدثون بكل عنهجية، ولم يكن بمقدورك إرجاع بضاعة أشتريتها وإذا صممت على إرجاعها قد تتعرض للإهانة من صاحب المحل الذي يحمل بطاقة عسكرية أو رجال الأمن الذين ينتمي معظم أفرادهم للمحافظات الشمالية.
هذا في ما يخص المعاملات التي يعيشها المواطن بشكل يومي، أما في ما يتعلق بثروات الجنوب المتنوعة فقد كانت تُقسم كورث بين عفاش وأقاربه وشبوخ القبائل التابعين له والمتنفذين في الدولة آنذاك، وكل هذه المعاملات وهذا الظلم ملأ قلوب الجنوبيين كرها وحقدا على الوحدة اليمنية وامتد الكره ليُطال أبناء الشمال ككل بسبب هذه الأفعال التي رعاها عفاش ظنا منه أنها ستمنع انفصال الجنوب.
قاعدة أساسية تاريخية تقول " لكل ظالم نهاية" وليت عفاش اعتبر ممن ظلم لكنه صمم على ظلمه، وفي عام 2006م، جرت الانتخبات الرئاسية وقدمت أحزاب المعارضة المرشح فيصل بن شملان - رحمة الله عليه - من أجل التغيير نحو الأفضل ومن أجل رفع الظلم عن الجنوب والقضاء على الفساد في البلاد، لكن عفاش لم يسلم الكرسي رغم خسارته في الانتخابات الأمر الذي أقنع أبناء الجنوب أن طريق التغيير عبر الانتخابات أصبح مسدود، ولا خيار إلا بثورة جنوبية تطالب بفك الارتباط والخلاص من كل هذا الظلم.
فخرجت الثورة الجنوبية نهاية ٢٠٠٦م من مدينة المكلا بقيادة حسن أحمد باعوم وقيادات من حزب الإصلاح فيهم أحمد بامعلم، ثم توسعت الثورة لتشمل كل المحافظات الجنوبية.
ولأن الظلم مؤلم فقد قدم أبناء الجنوب أرواح ودماء للخلاص من هذا الوضع السيء وكانوا يواجهون قوات عفاش الباشة بصدور عارية في مدن مسالمة كعدن والشحر والمكلا وغيرها.
بلا شك فقد تعرض أبناء الجنوب لكل أنواع الظلم وهو ما دفعهم للمطالبة بانفصال الجنوب.
لكن بعد سقوط نظام عفاش وهلاك الظالم، اتفق اليمنيون على إعادة صياغة الوحدة اليمنية في مشروع اليمن الاتحادي المكون من 6 أقاليم تحكم نفسها بنفسها بعيدا عن المركز وتدخلاته ونفوذه، وأصبح هذا الحل هو الخلاص الوحيد لإخراج اليمن من دوامة الصراعات العسكرية والقبلية والسياسية لرحاب واسعة تنهض فيها البلاد نهضة حقيقية تعيد الاعتبار لما لحق بها وبتاريخها من ظلم.
مشروع الأقاليم هو النموذج الأفضل لدولة تتمتع بتنوع جغرافي وقبلي وفكري وسياسي، ولديها ثروات مختلفة قلما تجتمع في دولة واحدة.
كم نتمنى من المجلس الانتقالي وكل المكونات على الساحة الجنوبية أن تتفهم حقيقة الأمر وخطورة الرجوع للتمزق والتفكك من جديد.