آخر تحديث :الأحد-23 فبراير 2025-09:18م

الكذب بين الأمس واليوم

الأحد - 09 فبراير 2025 - الساعة 08:22 م
د. عوض احمد العلقمي

بقلم: د. عوض احمد العلقمي
- ارشيف الكاتب


   استذكرت زمن الطفولة ، وأنا مقيم في حاضرة الثقافة اليمنية ، إذ قضيت سنوات في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم ، كانت جميلة ومثمرة ، بل عالية الأغصان ، دانية القطوف ، لاتختلف في شيء عن أيام الصبا ، ولياليها المضيئة .

   كنت أتردد على ذلك الشارع الرائع ، الخاص بالمشاة ، المملوء بالأقمشة ، وكل شيء جميل من التراث اليمني ، الذي يمثل الهوية اليمنية ، الضاربة جذورها في أعماق التاريخ ، يبدأ ذلك الشارع الساحر من باب موسى غربا ، حتى ينتهي بك في الباب الكبير شرقا .

   لكن الشيء الذي ارتسم في ذاكرتي من ذلك الشارع ، هو ذلك الشيخ المسن ، الذي كان يفترش الشارع ، ويفرش أمامه خرقة خلقة ، تقدر مساحتها بمتر في متر ، ثم يضع بضاعته عليها ، والبضاعة هي : بقايا بندقية عتيقة ، وخنجر قد أكله الصدا ، وعصا قد نخرته الأرضة ، ومشكاة من غير زجاجة ولا ذبالة ، ومصباح منخور من الداخل والخارج ، وغيرها من الأدوات التي أكل الدهر عليها وشرب ، ثم يصرخ في المارة ، أيها الزبائن الكرام ، تعالوا إلي ستجدون مايسركم ، إن لدي من البضاعة ماسيبهركم  .

   ننصرف نحوه ، ونقبل عليه ، فيقول للواحد منا : هيا هل تريد هذا الخنجر القاتل ؟ أم تريد هذه البندقية الفتاكة ؟ أم تريد هذا الفانوص الخاص بسهر الليالي المظلمات ؟ أم أنت معتاد على السرى والإدلاج فلتأخذ هذا المصباح الذي ينافس النجوم في إضاءته ؟ وعندئذ تضحك أنت الزبون أولا حتى تغادرك الهموم لأيام وشهور ، ثم تقول : أريد ذلك الخنجر القاتل ، فكم ثمنه ؟ يقول : إن ثمنه درهمان أو ثلاثة ، وبعد أن يقبض الثمن ، يمسك بالخنجر ، ثم يضربه بأصابعه ، وهو يقول ماشاء الله إنه يشبه شقف الجرة ، خذه يابني ، وإذا مارأيت خصمك أو عدوك ارم الخنجر جانبا ، وانج برجليك ، قبل أن يوسعك ضربا ، وهنا تعيد له ذلك الخنجر ؛ لكي يبيعه لغيرك ، وتنصرف عنه وأنت تضحك ساليا ، مطمئن البال ، صحيح إن ذلك الشيخ المسن يبيع كذبا ، ويتسول بشيء من الحيلة والفهلوة ، لكن لاضرر  ولا ضرار ، فأنت تخرج ضاحكا ، راضيا بما قدمت ، وهو يعود بما يعيل أسرته ونفسه .

   أما كذب اليوم فيصدر من علية القوم وقادتهم ، فيعود بتدمير الشعوب وتضليلها ، بل بتجويع القوم ، وتدمير مقدراتها ، والعبث في أرزاقها ، وعزتها ، وكرامتها ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .