في معظم دول العالم، يُنظر إلى التعليم كاستثمار استراتيجي أساسي لبناء جيل واعٍ يسهم في تنمية المجتمعات وتطويرها. فهو حجر الزاوية الذي تقوم عليه الخطط التنموية، حيث تُخصص له ميزانيات ضخمة تُصرف على تطوير البنية التحتية، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية، إضافةً إلى منح المعلم مكانة مرموقة ومستحقات تكفل له حياة كريمة خلال سنوات عمله وبعد تقاعده.
إلا أن الواقع في اليمن يحكي قصة مختلفة تمامًا؛ إذ يعاني قطاع التعليم من تدهور شامل ومخيف، نتيجة غياب استراتيجيات واضحة التنفيذ وسوء إدارة الموارد، سواء المحلية أو الدولية.
أوهام الاستراتيجيات والفساد المستشري
خلال العقدين الماضيين، وضعت الحكومة اليمنية العديد من الاستراتيجيات لتحسين جودة التعليم الأساسي والثانوي، وجذبت دعماً دولياً لتحقيق هذه الأهداف. لكن الواقع يشير إلى أن هذه الاستراتيجيات لم تُترجم إلى مشاريع حقيقية على أرض الواقع. الأموال التي كان يُفترض أن تُنفق لتحسين البنية التحتية للمدارس، وتأمين الوسائل التعليمية الحديثة، وتدريب المعلمين، وجذبهم إلى المهنة، انتهت في مسارات أخرى غير مجدية.
فمعظم الدعم الدولي وُجّه إلى عقد مؤتمرات وورش تدريب قصيرة، تحمل عناوين براقة، لكنها لم تُسفر عن تغييرات حقيقية في المدارس أو في مستوى الطلاب. النفقات الباهظة لهذه الأنشطة أصبحت وسيلة لامتصاص التمويل الدولي دون أن تخدم جوهر العملية التعليمية، مما حوّل التعليم إلى ضحية للفساد وسوء التخطيط.
المعلم بين التهميش والإحباط
المعلم، الذي يُفترض أن يكون حجر الزاوية في أي نظام تعليمي ناجح، يعيش في اليمن أوضاعًا مأساوية. راتبه الشهري لا يكفي لتغطية أبسط احتياجاته اليومية، مما دفع كثيرين إلى ترك المهنة أو اللجوء إلى أعمال أخرى بحثًا عن لقمة العيش. هذا الواقع خلق إحباطًا عميقًا لدى الكوادر التعليمية، مما أثر على أدائهم وقدرتهم على العطاء داخل الصفوف الدراسية.
في ظل غياب الحوافز المالية والامتيازات، انخفض مستوى جذب المعلمين المتميزين، وأصبح السلك التربوي خيارًا أخيرًا لاختيار الكوادر، مما زاد من ضعف جودة التعليم وأدى إلى تفشي الغش وضعف مستوى الطلاب.
التعليم في أزمة: التكنولوجيا غائبة والمناهج عتيقة
بينما تسير دول العالم نحو إدخال التكنولوجيا في التعليم كوسيلة لتعزيز العملية التعليمية، فإن المدارس اليمنية تعاني من شح الوسائل التعليمية الحديثة، وتعتمد بشكل كبير على مناهج قديمة لا تواكب التطور العلمي والتقني.
هذا التراجع في تحديث المناهج أدى إلى خلق فجوة كبيرة بين الطلاب ومتطلبات العصر الحديث، حيث أصبح خريجو المدارس والجامعات غير مؤهلين لسوق العمل، مما زاد من معدلات البطالة والتدهور الاقتصادي
التسييس.. عقبة في وجه التعليم
أحد أكبر التحديات التي تواجه التعليم في اليمن هو سيطرة الأحزاب السياسية على العملية التعليمية. بدلاً من أن تكون المدارس والجامعات بيئة خالصة للتعليم والتنوير، أصبحت ساحات لترويج الأيديولوجيات السياسية وخدمة أجندات الأحزاب.
هذا الوضع أضعف استقلالية التعليم، وحوّله إلى وسيلة لخدمة مصالح ضيقة، بدلاً من أن يكون وسيلة لخلق أجيال قادرة على بناء وطن متقدم ومزدهر
هل آن الأوان للتغيير؟
الوضع الحالي يدعو لإعادة النظر بشكل جذري في سياسات التعليم في اليمن. التغيير يبدأ من:
1. إصلاح المناهج الدراسية: بما يتناسب مع التطورات العلمية والتقنية والتكنولوجية.
2. إعادة الاعتبار للمعلم: من خلال تحسين رواتبه وتوفير حوافز مالية ومعنوية.
3. إدارة التعليم بشكل مستقل: بعيدًا عن الانتماءات السياسية والحزبية.
4. تحديث البنية التحتية: وتوفير التكنولوجيا الحديثة في جميع المدارس.
5. محاربة الفساد: لضمان وصول التمويل إلى المشاريع التعليمية الحقيقية.
التعليم.. أمل في بناء وطن حضاري
لا يمكن بناء دولة متقدمة دون تعليم قوي ونموذجي. التعليم هو البذرة التي تنمو لتصبح شجرة راسخة تؤتي ثمارها في جميع مجالات الحياة. إذا أراد اليمن أن ينهض من أزماته المتلاحقة، فإن البداية يجب أن تكون من إصلاح التعليم.
آن الأوان أن نُعيد للتعليم مكانته، وأن نعمل على إخراج مخرجات تساهم في بناء وطن حضاري وصناعي، وطن يواكب التطور العالمي ويضمن مستقبلًا أفضل لأبنائه. التعليم ليس رفاهية، بل ضرورة لبقاء الأمم.