ثمة قضية مهمة تخص مستقبل أبنائنا، وهي قضية "تأثير الألفاظ المهينة على نفسياتهم". فكثير من الآباء والأمهات والمعلمين قد يغفلون عن خطورة الكلمات الجارحة التي تُقال للأطفال، في حين أن الكلمة قد تكون أداة بناء أو معول هدم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
والأطفال أمانة عظيمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" ومن أعظم صور الغش لرعية الأبناء أن نغفل عن أذيتهم بالكلمات المهينة التي تجرح نفوسهم، وتترك فيهم جروحًا قد لا تلتئم مدى الحياة.
إن الكلمات المهينة لها أثرها النفسي العميق على الطفل؛ إذ أنها تشعره بالدونية وقلة الثقة بالنفس؛ فالطفل الذي يسمع كلمات مثل "أنت فاشل" أو "لن تفلح أبدًا" يبدأ في تصديق هذه الكلمات، مما يؤدي إلى تكوين صورة سلبية عن نفسه. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الأب الحريص على ولده يحسن القول له، فإنما الكلمة مفتاح قلبه وبناء ذاته". كما أنها تسبب له القلق والخوف المستمر؛ فالطفل الذي يتعرض للإهانة اللفظية يعيش في خوف دائم من ارتكاب الأخطاء. وهذا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا". كما تتسبب في شعوره بالكآبه وشعوره بالعزلة؛ فالكلمات الجارحة تزرع في قلب الطفل الحزن والانطواء، مما قد يدفعه إلى العزلة الاجتماعية أو حتى إيذاء نفسه.
ولها أيضا تأثيرها السلوكي؛ فهي تؤدي إلى العدوانية وردود الفعل العنيفة؛ فالطفل الذي يتعرض للإهانة قد يصبح عدوانيًا في محاولة لحماية نفسه. كما تؤدي إلى الانطواء وضعف التفاعل الاجتماعي؛ فبعض الأطفال ينسحبون من المجتمع خوفًا من التعرض للإهانة، مما يضعف مهاراتهم الاجتماعية. وتسبب التمرد وسوء التصرف؛ فالإهانة تدفع الطفل إلى رفض السلطة الأبوية أو المدرسية، مما يعقد عملية التربية.
ولها أيضا تأثيرها المعرفي والتعليمي السلبي؛ إذ تضعف التحصيل الدراسي؛ فالطفل المُهان يفقد الدافع للتعلم، مما ينعكس على مستواه التعليمي. وتؤدي إلى ضعف القدرة على التفكير الإبداعي؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾؛ فاللسان أداة بناء وتشجيع، وليس للهدم والتثبيط. وتؤدي إلى الخوف من التجربة والخطأ؛ فالإهانة تجعل الطفل يخاف من المحاولة، مما يضعف مهاراته النقدية والإبداعية.
ولا شك أن لاستخدام الألفاظ المهينة أسباب موضوعية تجل الأبوين والمربين يقعون فيها؛ فهناك أسباب نفسية؛ منها الغضب وعدم التحكم في الانفعالات؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". ومنها التنشئة السابقة للآباء؛ فكثير من الآباء الذين تعرضوا للإهانة في صغرهم ينقلون هذه السلوكيات إلى أبنائهم.
وهناك الأسباب التربوية؛ كنقص الوعي بأساليب التربية السليمة، والتربية تحتاج إلى علم وصبر، وكثير من الآباء والمعلمين يفتقرون إلى التدريب اللازم. وكالاعتماد على العقاب بدل التشجيع؛ وصدق من قال:
إذا رُبّيتَ بالعطفِ زادَكَ طاعةً * وإن رُبّيتَ بالقهرِ صارَ لكَ العِصيانُ
وهناك أسباب اجتماعية لاستخدام الألفاظ المهينة مع الأبناء والطلاب، ومنها ضغوط الحياة؛ فالضغوط الاقتصادية والاجتماعية تدفع الأبوين إلى تفريغ غضبهم على الأطفال. ومنها تأثير العادات السلبية؛ فبعض الثقافات للأسف تشجع على استخدام القسوة اللفظية كوسيلة للتربية.
والحل لهذه الظاهرة المدمرة لشخصية وكيان الطفل والطالب، يتمثل في البدائل الإيجابية التي جاء بها الإسلام ويتقبلها العقل وتوصل لها العلم. وتتمثل في التعبير عن المشاعر بلطف؛ فبدلًا من قول "أنت كسول"، يمكن قول "أنت تحتاج إلى بذل جهد أكبر". وفي إعطاء الأطفال والطلاب فرصة التعبير، وفي التوجيه بدلا عن الإهانة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك". فوجّه صلى الله عليه وسلم دون إهانة.
- وتتمثل أيضا في التشجيع والتقدير وذلك بذكر الجوانب الإيجابية والتشحيع على الخير بالكلمة الطيبة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ومن مكارم الأخلاق التشجيع على الخير بالكلمة الطيبة. ويكون التشجيع والتقدير أيضا بالمكافأة المعنوية، وذلك بتشجيع الطفل بالكلمات اللطيفة التي ترفع من معنوياته، كقول: "أنا فخور بك".
وتكون ايضا بالقدوة الحسنة؛ بأن نكون نماذج في القول والعمل؛ تأسيا بقدوة البشر. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
وللأسرة والمدرسة والمجتمع الدور المهم والبالغ في حماية الطفل من الإهانة؛ فاما دور الأسرة؛ فيتمثل في تعزيز القيم الإيجابية؛ فالوالدان هما أول قدوة للطفل، ويجب أن يكونا مثالًا في استخدام الكلمة الطيبة. وعلى الأسرة الاحتواء العاطفي للطفل؛ فإظهار الحب للطفل يجعله يشعر بالأمان النفسي. وأما دور المدرسة فيتحقق بتدريب المعلمين على التربية الإيجابية؛ فالمعلمون يجب أن يتجنبوا الكلمات المهينة التي قد تؤذي الطفل. وأيضا بخلق بيئة تعليمية داعمة؛ ورحم الله الشاعر إذ قال:
إذا لَقِيَ الفَتى وُدًّا وَلِينًا * أفاضَ نَشاطَهُ عِلمًا وَدينًا
وأما دور المجتمع؛ فبالتوعية الإعلامية؛ فالإعلام يجب أن يسهم في نشر ثقافة الكلمة الطيبة. وأيضا ببرامج الإرشاد الأسري؛ فالمجتمع بحاجة إلى دعم الأسر بأساليب تربوية حديثة.
إن تربية الأبناء ليست مجرد توفير المأكل والمشرب والملبس؛ بل هي بناء النفوس وغرس القيم.
ولنتذكر أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن كل كلمة نُخرجها تُحسب علينا أو لنا.
فعلينا مراجعة أسلوبنا التربوي؛ وذاك يوجب علينا أن نقيّم أنفسنا ونسأل: هل نستخدم الكلمات المناسبة مع أبنائنا؟ وهل نسعى دائمًا لتشجيعهم بدلًا من تثبيطهم؟
وعلينا تعلم فن الحوار الإيجابي مع الطفل؛ فذلك يفتح له آفاقًا جديدة ويجعله يشعر بالاحترام والتقدير. وعلينا الاستفادة من القدوة النبوية؛ نتأمل كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال بلطف وحنان، فقد كان يُظهر اهتمامه بهم ويُثني عليهم. ويجب أن تكون هناك حملات توعية للأهالي والمعلمين حول خطورة الإهانة اللفظية وأثرها السلبي على نفسية الطفل. وعلينا التوجه إلى الله بالدعاء أن يعيننا على أداء هذه الأمانة، فالدعاء من أعظم أسباب التوفيق.
الكلمة الطيبة هي مفتاح القلوب، والكلمة الجارحة سهمٌ يصيب الأرواح. فلنحرص على أن تكون كلماتنا مع أطفالنا طيبة ومشجعة. قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. ولنحرص على أن نكون سببًا في بناء نفوس أبنائنا لا في هدمها. لنتجنب الألفاظ الجارحة ولنعوضها بالكلمات الطيبة التي تشجعهم وترفع من معنوياتهم. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا". ولنراقب ألسنتنا، ولنتذكر دائمًا أننا مسؤولون عن كل كلمة نقولها. ولنتقِ الله في كلماتنا وأفعالنا، فإننا مسؤولون أمام الله عن هذه الأمانة العظيمة.
ونسأل الله أن يوفقنا لتربية أبنائنا تربية صالحة، وأن يحفظهم لنا ذخراً في الدنيا والآخرة.
ودمتم سالمين!