في غيابةِ الجبّ ، يائسٌ من أن تأتي سيّارةٌ ، وذلك لانعدامِ وقودِ السيّارات في أجزاءٍ من البلاد ، أخذَتْني سِّنةٌ ، فرأيتُ واردةً قد أرسلتْ دلوَها ، تشبّثت به ، وصعدنا ، أقتربنا معا ، نحو مشارف البئر ، وقد بذلتِ الواردةُ غايةَ مجهودِها ، وتعبتْ ، وسقطَ خمارُها ، وكُشِفَ نحرُها ، رأيتُها منحنيةً تتصببُ عرقا ، أبصرتُ نخلتين عاتيتين حينئذٍ ، أصلاهما ثابتٌ في الترائب وفرعاهما في الهواء ، هالني نضارتهما ، تذكرتُ الصّدّيقة مريم حينما كانت تقاسي مخاضَ ولادتِها بعيسى تحت ذلك الجذع ، وأسمع هاتفا من صدري -لا أعلم بعد أهو شيطان أم ملاك- يحثني على هزِّ الجذع ، وقطف العذق ، والقنوان الدانية ، رويدا رويدا أقتربُ لأهزّ ، ليتساقط الرطبُ ، صاحتِ الواردة عائذة بربّها من كوني جنيا ، وخرتْ صَعِقا ، وتدلى الحبلُ من يديها ، وارتطمت بغيابتي.
موفق السلمي — غيابة الجبّ.